'/> خيريّة القرآن وعنصريّة الشّيطان: | الكرامة نيوز

خيريّة القرآن وعنصريّة الشّيطان:

إنّ المتدبّر للقرآن سيدرك أنّه لم يكتفِ بجعل أساس الخلافة في الأرض هو الإيمان والعمل الصّالح، بل النّهي القرآنيّ الصّريح عن أيّ نظام سياسيّ أو ولاية عامة أو خلافة تقوم على أساس عنصريّ سلاليّ استكباريّ استعلائيّ، بحيث يحتكر الخلافة والولاية العامّة على أساس الأفضليّة العنصريّة ويقسم المجتمع إلى طبقتين:
-       طبقة السّادة المستكبِرين.
-       طبقة العبيد المستضعَفين.
هذه المعاني يمكن فهمها بجلاء من خلال قصّة آدم واستخلافه في الأرض، وموقف الشّيطان من هذا الاستخلاف هذه القصّة التي أخذت مساحة واسعة في القرآن لنأخذ منها الدّروس والعبر في سياق الخلافة، والحقوق السّياسيّة، والولاية العامّة على النّحو التّالي:
لو تأمّلنا في قصّة إبليس وآدم -عليه السلام- لوجدنا أنّ غضب الله على الشّيطان وطرده من رحمته لم يكن بسبب كفره بالله، بل بسبب كِبره واعتداده بأصله وعنصره ونسبه، وقد عدّ الله الكِبر المتولّد عن النّزعة العنصريّة والافتخار بالنّسب سببًا لكفر إبليس.
- (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ). [البقرة:34].
- ولو بحثنا عن سبب كِبره لوجدناه كِبرًا يرتبط بدعوى أفضليّة الأصل والعرق والافتخار بالنّسب والمحتد: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ). [الأعراف: 12-13].
- وقد جاء تمرّد الشّيطان وكِبره واستعلاؤه واعتداده بأصله وعنصره ونسبه في سياق الرّفض للقرار الإلهيّ بتعيين آدم خليفةً في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً). [البقرة:30].
- ومفهوم(خليفة) بالمصطلح القرآنيّ مفهوم سياسيّ، يُقصد به الزّعامة أو الرّئاسة أو الإمامة؛ لأن الإمامة في القرآن مشتقّة من الأمام أيْ الشّخص الذي يتقدّم النّاس وهو الزّعيم أو الرّئيس، والإمامة في القرآن هي إمامة هدًى، وإمامة ضلال، نقول ذلك؛ لأنّ الأئمّة الذين حكموا في اليمن ألف عام قد شوّهوا هذا المصطلح، فَهُم أئمّة ضلال، ولكن هذا لا يمنعنا من استخدام هذا المصطلح القرآنيّ (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) في سياق إمامة الهدى.
ومما يؤكّد أنّ مصطلح (خليفة) يُقصد به الإمامة السّياسيّة قوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ). [ص: 26].
كما أنّ مصطلح خليفة يُقصد به إلى جوار الزّعامة والإمامة السّياسيّة معنًى إضافيّ، وهو الإشارة إلى تداول السّلطة؛ لأنّ الخليفة يأتي بعد مخلوف؛ فسياق القرآن المتعلّق بالخلافة والاستخلاف يدلّ على هذا، من ذلك قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ). [الأنعام:133].
-       (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا). [هود:57].
-       (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ). [الأعراف:169].
فالآيات السّابقة أكّدت ما ذهبتُ إليه بصريح القرآن؛ لأنّني أؤمن أنّ منهجيّة تفسير القرآن بالقرآن هي أقوى مناهج التّفسير، وهذه المنهجيّة تساعدنا في فهم القرآن موضوعيًّا، وتساعدنا أيضًا في فهم القرآن حتى لغويًّا. أقول هذا؛ لأنّ هذا المصطلح (خليفة) مصطلح مهمّ قرآنيًّا، وقد أخطأ في فهمه كثير من العلماء والمفكّرين؛ فاعتبروا الخلافة في الأرض، وكأنّها مصطلح لتنظيم علاقة الإنسان بالأرض أيْ الطّبيعة، والحقيقة أنّه مصطلح سياسيّ لتنظيم العلاقات السّياسيّة، والخطأ الآخر من وجهة نظري الذي وقع فيه بعض العلماء والمفكّرين هو اعتبار هذه الخلافة خلافة عن الله، في حين أنّ سياق الآيات يدلّ على أنّها خلافة بالله، فلو جاء هذا المصطلح (خليفة) خاصّ بآدم لاحتملنا هذا الفهم القائل إنها خلافةً عن الله، لكنّ سياق الآيات كلّها المتعلّقة بهذا المصطلح (خليفة – خلفاء – يستخلف) يؤكّد أنّه استخلاف بالله، لا استخلاف عن الله بدليل الآيات التّالية:
- (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ). [النور:55].
- (وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوح). [الأعراف:69].
- (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ). [الأعراف74].
إذًا فمصطلح خليفة تدلّ قرآنيًّا على ثلاثة أبعاد لغويّة:-
1-   أنّها زعامة ورئاسة سياسيّة لتنظيم العلاقات السّياسيّة.
2-   أنّها تشير إلى تداول السّلطة (وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوح)؛ لأنّ كلمة خليفة تدلّ على مخلوف وخالف.
3-   وأنّها خلافة بالله لا عن الله، بدليل أنّ كلّ الآيات تشير إلى أنّ الله استخلف آدم وداود، واستخلف قومًا عن قوم، ووعد باستخلاف المؤمنين في كلّ أطوار الصّراع السّياسيّ التّاريخيّ بين المؤمنين والكافرين.
من خلال المعاني اللّغويّة لمصطلح خليفة للقرآن فإنّنا نفهم من قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) أنّ خلافة آدم هنا هي خلافة بدلاً عن الملائكة والجنّ بزعامة الشّيطان؛ أيْ أنّ الشّيطان كان هو الخليفة قبل آدم والقرائن التي تعزّز هذا الفهم هي:
أ- احتجاج الملائكة على قرار التّعيين الإلهيّ لآدم خليفةً بقولهم: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). [البقرة: 30].
ومما يؤكّد شعور الملائكة على رأسهم الشّيطان أنّ هذا الأمر (جعْل آدم خليفة) فيه دلالة على انتزاع الخلافة منهم، وارتباط هذا وتعلّقه بهم هو هذا الاحتجاج الملائكيّ، وهذا الحوار السّياسيّ الرّائع بين الله والملائكة الذي سعى الملائكة من خلاله بقيادة إبليس الذي كان طاووس الملائكة إلى التّشكيك في كفاءة آدم وجدارته بهذا المنصب: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
ب- ثم يأتي المشهد الثّاني لقصّة أوّل صراع سياسيّ شهدته الخليقة بين الملائكة والجنّ، وبني آدم وقصّة أول حوار سياسيّ يدور حول تداول السلطة السّياسيّة، مشهد أنّ الله سبحانه وتعالى لم يغضب من الملائكة والشّيطان على هذا الحوار السّاخن، وإنّما حاورهم، وعندما شكّكوا في كفاءة آدم، وأظهروا أنّهم أجدر منه بقولهم: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
ردّ الله عليهم بما يثبت أنّه أكفأ منهم، ولم يكن ردّ الله ردًّا نظريًّا، وإنّما لكي يقتنعوا قناعة كاملة أنّه أكفأ منهم أدخل الجميع في اختبار عمليّ: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ). [البقرة:31-33].
والآيات السّابقة أوضحت لنا عدّة أمور:
1.    أنّ معيار ومواصفات هذا المنصب الأساسيّ هو العلم والكفاءة.
2.    جرى الاختبار العمليّ بين آدم والملائكة متعلّقًا بهذا المعيار (العلم).
3.    أثبت لهم عمليًّا أنّ آدم أكثر علمًا منهم.
4.    لو حاولنا معرفة سرّ تفوّق آدم العلميّ لوجدناه في قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) فالكلّ تعلّم من الله تعالى، لكن ما تميّز به علم آدم يكمن في قوله تعالى: (الأَسْمَاء كُلَّهَا) فكلمة (كلّها) إشارة إلى العلم الكليّ الذي هو علم السّنن، وهو العلم الذي يقود إلى الفهم الشّامل، ويتولّد عن هذا العلم الكلّيّ خاصيّة التّنبّؤ واستباق الأحداث، ولا يصل إلى هذا الفهم إلاّ من امتلك خاصّيّة التّعلّم الذاتي وملكة فهم قويّة تحلّل وتستنبط، أمّا علم الملائكة فهو علم جزئيّ، وليس لهم خاصّيّة العلم الذّاتيّ، ولذلك لا يعلمون إلاّ بقدر التّلقين الإلهيّ لهم مباشرة، وإن في هذه القصّة دروس بليغة في علم السّياسة وفي علم الإدارة أشرنا إليهما ولم نفصّلها.
ج- ومن القرائن على أنّ خلافة آدم جاءت بدلاً عن رئيس الملائكة (إبليس) والملائكة أيضًا، هو أنّه بعد إثبات كفاءة آدم العلميّة على الملائكة تمّ إصدار التّوجيهات الرّبانيّة إليهم بالتّسليم لخلافته وإعلان طاعته من خلال الأمر الإلهيّ بالسّجود، والسّجود هنا سجود الطّاعة والاعتراف (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
د- من الأدلّة أيضًا على أنّ خلافة آدم كانت بدلاً عن الشّيطان رئيس الملائكة هو قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطان إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً). [الإسراء:61-65].
فقول الشّيطان في الآية: (أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) دليل على استخلاف آدم بعد مخلوف هو الشّيطان؛ إذ عدّ الشّيطان تعيين آدم تكريمًا لآدم على الشّيطان؛ أيْ بديلاً عنه.

إرسال تعليق

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

اخترنا لكم