ان أعداء الإسلام متمثلين فى اليهود والغرب الحاقد وأذنابهم فى الداخل . قد عقدوا العزم على التخلص نهائيا من الإمام البنا وجماعته . وتحقق لهم الأمر الثانى فى 8ديسمبر 1948 ، ونشطوا فى تحقيق الأمر الأول وهواغتيال الإمام نفسه، وتحقق لهم ذلك بعد تخطيط محكم وتدبير شيطانى .
ولقد مرت عملية الاغتيال الآثم بعدة مراحل كانت تمهيدا للجريمة الكبرى وكانت على النحو التالى : ـ
أولاً : حل الجماعة واعتقال أفرادها ومصادرة ممتلكتها .
ثانيا : عدم اعتقال الإمام البنا ، وتركه طليقا بعيدا عن إخوانه الذين يفدونه بأرواحهم ، وذلك حتى يتمكنوا من قتله أعزل من الأعوان والأحباب .
ثالثا : تجريده من الحماية الشخصية ، حيث تم تجريده من مسدسه الخاص وسحب رخصته ، وكذلك الاستيلاء على سيارته الخاصة حتى يحد ذلك من حركته فيضطر إلى استخدام وسائل المواصلات العامة مما يسهل أن يكون تحركه تحت أعينهم .
رابعا : تحديد إقامته بمدينة القاهرة وعدم السماح له بمغادراتها إلى أى مكان آخر داخل البلاد أو خارجها .
خامسا : الاستدراج إلى مكان ووقت الجريمة الشنيعة .
كيف اغتيل
تفاصيل استشهاده ( 12 فبراير 1949)
في وحشة الليل ، وسور الغدر ، ويقظة الجريمة كان الباطل بما طبع علية من غرور و ما جبل عليه من قسوة ، و ما مرد عليه من لؤم ، كان مستخفياً ينساب في أحياء القاهرة الغافلة ، يجمع سلاحه و يبث عيونه ، و يسوق أذنابه من الكبار الصغار و يعد عدته ، لكي يغتال حسن البنا ، مرشد الإخوان المسلمين ، و ليس قتل الأنبياء و الصديقين في هذه الدنيا بالأمر الصعب .
إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديماً على أنبياء الله ، فذبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة أفكثير على من تلقفوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض أن يردوا هذا المورد ؟ بلي و من المترفين و أن ترك حملة الوحي يهونون مع الوحي ، لا بأس ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول : " اللهم آتني أفضل ما آتيته عبادك الصالحين ، فقال له : إذن يعقر جوادك و يراق دمك ، حتى الجواد يقتل مع صاحبه ، و أصابه من الشهادة مسها القاني ، و لو كان مربوطاً بعربة بضاعة لعاش دهراً .
و كذلك أبى ربك أن يسترجع المختارين من عباده ، بعدما أدوار رسالتهم في الحياة أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة ، و جراحاتها الغادرة فمزق علج من المجوس أحشاء عمر ، و عدا مأفون غر على حياة على ، و قتل يزيد الماجن الحسين سبط الرسول و تآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا ، و لن نزال سلسلة الشهداء تطول حلقة ما بقى الدنيا صراع بين الضياء و الظلام .
التمهيد للجريمة
توجه حسن البنا إلى مطار القاهرة للحج في 23 سبتمبر 1948 و معه جواز سفر يبيح له السفر إلى جميع أنحاء العالم ، و على الجواز أيضاً تأشيرة تسمح له بأن يستقل طائرة شركة سعيدة ، و لكن العقيد حسن فهمي مفتش الجوازات سحب منه الجواز ، و ألغي جميع الدول المصرح له بالسفر إليها و اكتفي من بينها بتأشيرة الحج فقط . و قال إنه فعل ذلك بناء على تعليمات من عمر حسن مدير القسم المخصوص - مباحث أمن الدولة .
و سافر المرشد العام إلى المملكة العربية السعودية فأبرقت وزارة الداخلية إلى القنصل المصري في جدة بعدم السماح للبنا بالسفر إلى أية دولة عربية أخرى . قال عبد القادر عودة وكيل جماعة الإخوان إن الحكومة لم تستطع منع البنا من السفر لأداء فريضة الحج ، وإلا قيل إنها صدته عن سبيل الله و البيت الحرام ، و من يفعل ذلك يعد كافراً .
و عاد حسن البنا في 28 نوفمبر 1948 ، و تقرر حل الجماعة في 8 ديسمبر و صدرت الأوامر إلى قوات الشرطة بالاستيلاء على شعب الإخوان ، توجهت قوة من رجال الأمن السياسي و القسم المخصوص حيث حاصرت المركز العام بالحلمية الجديدة و قبضت على من فيه و ملأت بهم السيارات . بقى المرشد ينتظر دوره ، ولكن أحداً لم يسأله ذلك ، ورآه سكرتيره سعد الدين الوليلي - الذي اعتقل أيضاً - يصعد سلم إحدى السيارات اللوري فمنعه رجال الشرطة من الصعود ، و تشبث بالسيارة و لكن ضابطاً أبلغه بأنه لم تصدر أوامر باعتقاله ، و يزداد البنا تشبثاً بالسيارة و اعتلى أولى درجاتها سلمها و هو يصيح : لا تأخذوا هؤلاء بجريرتي فأنا أولى منهم بالاعتقال ، و إذا كان الإخوان عصابة إجرامية فأنا رئيسها ! .
و لكن تحركت السيارة بالمعتقلين فذهب إلى دار المحافظة و لكن رجال الشرطة رفضوا اعتقاله . و اعتقل أعضاء مكتب الإرشاد و كثير من الإخوان و بقى مؤسس الجماعة و رئيسها و مرشدها العام وحده لم يعتقل . ضاعفت الحكومة إجراءاتها المتشددة ، راحت تقبض كل يوم على مئات لأتفه الأسباب ، قصاصة ورق ، نسخة من عدد قديم من جريدة أو مجلة الإخوان ، بطاقة من حسن البنا . و اعتقل معظم من يمتون إليه بصلة : أشقاؤه و منهم جمالالبنا الذي يعرف القسم السياسي أنه ليس من الإخوان ، و أصهار الشيخ و بقى زوج شقيقته عبد الكريم منصور - المحامي - لأنه اختفى فترة ثم عاد إلى الظهور .
و لم يعد للشيخ حرس سوى شقيقه ضابط الشرطة اليوزباشي عبد الباسط ، الذي يمشى مسلحاً في ركاب أخيه ، فلما عثر مع عبد الباسط على مسدس أخذوه منه وقبضوا عليه في 13 يناير . و كان قد رخص للشيخ البنابحمل مسدس بصفته رئيساً لإحدى الهيئات فتقدم يوم 5 يناير بطلب لتجديد الترخيص ، ظلت السلطات مترددة في الأمر و أخيراً قررت في 30 يناير ، رفض الطلب . و صدر أمر عسكري في 7 فبراير بسحب الأسلحة الشخصية من الإخوان أبلغ للمحافظات بعد 48 ساعة ، و لكن قسم شرطة الخليفة سحب مسدس الشيخ البنا ، فقد كتب اللواء أحمد طلعت وكيل الحكمدار و المشرف على القسم السياسي على طلب التجديد يقول " المذكور هو مرشد جماعة الإخوان المنحلة " .
و قال حكمدار شرطة القاهرة مدافعاً عن هذا القرار بأن الشيخ لا يستطيع استعمال المسدس . لم يجد الشيخ حلاً إلا أن يكتب خطاباً إلى فؤاد شيرين محافظ القاهرة يقول فيه :
" أشعر أني مهدد بالقتل ، أرجو تعيين جندي مسلح لحراستي على نفقتي الخاصة " . و مضت أيام دون أن يفوز برد . و توجه الشيخ إلى مجلس الدولة لحضور الدعوى التي أقامها ضد الحكومة لحل الجمعية ففتشه أحد رجال الشرطة تفتيشاً دقيقاً ، و كذلك صهره عبد الكريم منصور للتأكد من أنهما لا يحملان مسدسات .
و كانت للبنا سيارة قديمة اشتراها بأقساط شهرية من مرتبه يستعملها في تنقلاته ، و هذه السيارة لا صله لها إطلاقاً بأموال الإخوان المسلمين ، ولا علاقة لها بشركات الجماعة ، فلما حلت الجماعة سحبت وزارة الداخلية هذه السيارة ضمن ممتلكات الإخوان المصادرة . أخذ سيارة عبد الحكيم عابدين ، و هي سيارة خاصة ليست ملكاً للجماعة ، و لمت الشيخ البنا لم يجدها أمام البيت فذهب إلى قسم الشرطة يبلغ عن سرقتها فقيل له : الحكومة صادرت السيارة . أصبح البنا بلا حارس ، أو مسدس ، أو سيارة ولا يستطيع الانتقال إلا بوسائل النقل العام أو في سيارة تاكسي ، و بقى التليفون يتصل ، و من خلاله بالمسئولين الوسطاء يحاول الإفراج عن بعض الإخوان المعتقلين و تخفيف التعذيب عن البعض الآخر . فوجئ ذات يوم بأن التليفون فقد الحرارة بأمر وزارة الداخلية .
و قطع يوم 18 يناير عن بيت المرشد الخط التليفوني الفرعي الذي يتصل بمقر الجماعة لأن المركز العام مغلق طبقاً لقرار الحل . و أحس بالحصار يضيق حوله ، و أنه يكاد سجيناً لا يوزر ولا يزار فطلب اعتقاله ، و قال أنه لا يوجد مبرر واحد لبقائه حراً ، و لكن النقراشي باشا قال : لا خطر من حسن البنا بعد قص أجنحته . أخذ البنا يتردد على مكتب فتحي رضوان المحامى بعد حل الجماعة ، و كان يوافيه عدد قليل جداً من الإخوان يحيونه ، و يتحدثون إليه لحظات سريعة فإن الاعتقال كان يطارد الجميع . استمرت رقابة الشرطة على الشيخ . المخبرون و الجنود يقبضون على من يمرون أمام بيته أو يزورونه و يقودونهم إلى قسم الشرطة لسؤالهم و يفرج عن البعض و يعتقل كثيرون . كلف أحد الكونستبلات بمراقبة الشيخ يتعقبه بموتوسيكل حيناً ، و في سيارة أحياناً ، فلما ضاق المرشد بهذه الرقابة اتصل باللواء أحمد عبد الهادي حكمدار شرطة القاهرة و طلب منه رفعها فوافق الحكمدار في 4 يناير ، كما قال .
و لكن الحقيقة أن مخبراً اسمه عبد المنعم إبراهيم ظل يراقب الشيخ ، حتى اليوم السابق للجريمة بناء على تعليمات الرائد محمد صالح ضابط القسم السياسي ، و بذلك بقى المرشد العام موضع المراقبة الدقيقة ، تحت عين وزارة الداخلية تحصى عليه كل تحركاته . و اعترف مخبر اسمه أنور على أحمد أنه اشتعل في مراقبة المرشد العام حتى الثالثة بعد الظهر يوم 12 فبراير لمراقبة حركاته و سكناته ، و معرفة اتصالاته من ناحية ، و منع هربه من ناحية أخرى فلا يفلت من أيدي رجال الشرطة . و لم يقل المخبر أن الهدف هو أن يظل المرشد في قبضة رجال الشرطة حتى الوقت المحدد الذي تتيحه الفرصة لاغتياله .
و خاف أعضاء جمعية الشبان المسلمين على أنفسهم من عنت الدولة فاعترض و كيلها محمد زكى على باشا على حضور الشيخ إلى مقر الجمعية . و لكن صالح حرب باشا زار المرشد العام في بيته و قال له : اعتبر دار الشبان دار الإخوان ، دارك و مفتوحة لك دائماً . عرفت الحكومة بذلك فاتصل المسئولون بصالح حرب و قالوا له : هذا تحد لأمر الحل . رفض صالح حرب الخضوع قائلاً : هذه دار المسلمين جميعاً و لن يوصد بابها في وجه مسلم و من باب أولى لا يوصد في وجه حسن البنا و ستظل داره ما دام راغباً في زيارتها .
و هكذا أصبحت جمعية الشبان المسلمين المكان الوحيد الذي يتردد عليه حسن البنا فدفع اشتراك ه سنوات سابقة لم يسدد عنها الاشتراك . و كتب بخط يده في 4 فبراير طلباً ليكون عضواً في الجمعية ، و قال إنه صحفي هدفه تحقيق أغراضها ، فتقرر أن يعرض طلب الالتحاق على مجلس الإدارة يوم 8 فبراير لاتخاذ قرار فيه .
أراد حسن البنا أن يسافر للإقامة في عزبة الشيخ عبد الله النبراوي بدائرة مركز قليوب و لكنه خشي أن يؤدي ذلك إلى متاعب للشيخ النبراوي و أسرته فأرسل إلى محافظ القاهرة فؤاد شيرين يستأذنه في السفر . استأذن المحافظ رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي الذي طلب منه عدم الرد . و علق رئيس الوزراء - شفاهة - على طلب المحافظ قائلاً إنه - أي المحافظ - من الإخوان المسلمين .
و في اليوم التالي لوصول خطاب البنا إلى محافظ القاهرة - 10 فبراير - اعتقل النبراوي و معظم أفراد أسرته ، و هو شيح تجاوز الثمانين و مصاب بشلل نصفي ، و فتشت قريته بحثاً عن أسلحة .
و استمرت محاولات اغتيال المرشد العام
تقرر أن يتوجه إلى منزله بعد منتصف الليل الضابطان اليوزباشي عبده أرمانيوس و الرائد حسين كامل لإبلاغه أن النيابة أمرت باعتقاله ، ثم يقومان بدفنه في حفرة أعدت في الهرم عند طريق الفيوم . و لكن اللواء أحمد طلعت رفض الموافقة على تنفيذ هذه الخطة .
و وقف أحمد حسين مخبر الشرطة الذي نقل من جرجا إلى القاهرة أمام بيت المرشد في الحلمية لاغتياله ، و لكن الخفير الخاص للشيخ البنا اشتبه في أمره فأمسك به و اقتاده إلى قسم الدرب الأحمر و هناك أبرز بطاقة الشرطة للمأمور فقال للخفير : هذا تاجر مواشي ولا علاقة له بشيء ، و افرج عنه .
و جلس أحمد حسين في سيارة المقدم محمد وصفي في الشارع عندما مر المرشد مع مصطفى مرعي ، و كان مقرراً أن يطلق أحمد حسين الرصاص على الشيخ البنا ، ثم يفر في سيارة محمد وصفي و كان المقدم عبد الرءوف عاصم و اليوزباشي مصطفى علوان مستعدين للتدخل عند الضرورة ، و لكن الرائد حسين كامل صرخ في أحمد حسين قائلاً : امنع يدك فقد خشي أن يجتمع الناس للقبض على القاتل . قال شمس الدين الشناوي المحامي للشيخ البنا : إن بعض شباب السعديين و على رأسهم فتحي عمر و كامل الدماطي اجتمعوا في ناديهم و أقسموا على اغتيالك ثأراً للنقراشي ، أريدك أن تحتاط . قال المرشد العام : لقد منعوني حتى من السفر إلى الخارج .
و يلقي البنا يوم 10فبراير بالدكتور عزيز فهمي المحامي والكاتب السياسي وزعيم الطليعة الوفدية لمراجعة بعض قضايا الإخوان . سأله الدكتور عزيز : هل معك سلاح ؟ أجاب : السلاح أخذوه و الأخ سجنوه . و هكذا أصبح البناينتظر الموت فقد جردته الدولة من سلاحه الذي مرخصاً له بحمله ، و حركته مكن الحراسة التي كانت مضروبة عليه فأصبح هدفاً يؤمن الوصول إليه ، فإن جمعية الشبان المسلمين هي المكان الوحيد الذي يدخله إذا غادر بيته . و صفه عبد القادر عودة في تلك الأيام فقال : صار الشيخ البنا عصفوراً في قفص .
الجنازة
اتصل البوليس السياسي بالشيخ أحمد عبد الرحمن البنا والد الإمام الشهيد في بيته ليخبروه الخبر و يخيروه بين أمرين ، أن يحضروا جثمان ابنه إلى بيته ليقوم بدفنه دون أي احتفال أو جنازة ، أو يقوموا هم بدفنه بمعرفتهم دون أن يراه ، و في ثبات وصبر و إيمان اختار الشيخ الأمر الأول ، و تحت جنح الظلام في جوف الليل حملوا جريمتهم و جريمة عهدهم بل جريمة عصرهم إلى ذلك المنزل المتواضع بالحلمية الجديدة ، و لم يغفلوا عن حصار البيت ، فلا أحد يدخل ولا أحد يخرج .
و رفضوا استدعاء الحانوتي للقيام بما يلزم فقام الشيخ بنفسه و بدون معاونة من أحد بتغسيل ولده الشهيد الذي لم يجاوز الثالثة و الأربعين من عمره ، غسله و كفنه ، و احضروا له نعشاً فوضعه فيه ، ثم طلب إلى رجال البوليس حمل الجنازة ، فقالوا تحمله النساء ، و كان الرجل شيخاً كبيراً و هن العظم منه و اشتعل الرأس شيباً ، فعاونه في حمله نساء بيته المؤمنات الصابرات إلى مسجد قيسون للصلاة عليه و هي مسافة مجهدة ، و كان البوليس ينتشر في المنطقة و قد أمر بإغلاق النوافذ و الأبواب حتى لا يرى أحد هذه الجنازة التي لم يذكر التاريخ قديمه و وسيطه و حديثه مثيلاً لها ، لا في الشرق ولا في الغرب ولا في أي مكان أو زمان ، لم يسمح لأحد أن يرفع إصبعه بالشهادة ، و من فعل اعتقل ، و استطاع أفراد قلائل من الإخوان الوصول إلى المكان فاعتقلوا ، مثل محمد الغزالي الجبيلي و إبراهيم صلاح و محمود يونس رحمه الله .
و تم الدفن في مقابر الأسرة بالإمامين ، و الإمامان هنا هما الإمام الشافعي و الإمام الليث بن سعد لكل منهما ضريح في مسجده ، و دفن الإمام حسن البنا في مقبرته بعد هذين المسجدين في مكان معروف هناك ، ورابط رجال البوليس و معهم إحدى سياراتهم المدرعة على القبر شهوراً بعدها لا ندري لماذا لعلهم خافوا أن يأتي أحد فيقرأ لفاتحة .
و أذاعت حكومة إبراهيم عبد الهدي أن الإخوان المسلمين قتلوا مرشدهم و حفظ التحقيق و قيد ضد مجهول ، و لم يكن أحد يجهل من المحرض ولا من القاتل ، لقد كانت أسماء محمود عبد المجيد و المخبرين الذين أطلقا الرصاص أحمد حسين جاد و أحمد عبد الحميد و سائق السيارة عبود محفوظ و محمد الجزار الذي أراد أن يخفي معالم الجريمة كانت كلها معروفة لنا جميعاً ، و ظل أصحابها في أمان تام حتى وقع انقلاب 23 يولية 1952 و أراد أصحابه التقرب إلى الجماهير و التشهير بالعهد البائد و نشر غسيله القذر و فضح مخازيه ، فكانت هذه القضية من أبرز ما يتاجر به في ذلك ، فأعيد التحقيق و قدمت القضية إلى المحاكم و صدر حكم القضاء على هؤلاء جميعاً بالسجن مدداً متفاوتة بدأ تنفيذها ، و لكن ما إن ساءت الصلات بين الإخوان و بين جمال عبد الناصر حتى أصدر عفواً عن هؤلاء القتلة و تم الإفراج عنهم ، الأمر لا يحتاج إلى أي تعليق .
لم يقم للشهيد مأتم ، و كل من حاول الوصول إلى البيت وصل إلى معتقل جبل الطور بالطرف الجنوبي لشبه جزيرة سيناء ، قريباً من الوادي المقدس طوى حيث كلم الله موسى
لا إسعاف .. ولا جنازة .. ولا مأتم
و لم يستطع الوصول إلى البيت و تقديم العزاء للشيخ الوالد إلا مكرم عبيد باشا الوزير السابق استطاع الوصول و القيام بالواجب لسببين :
الأول : أنه كان قبطياً فلم يكن محل تهمة بانتمائه إلى الإخوان المسلمين .
و الثاني أنه كان رجلاً . و لقد كان مكرم عبيد من أصدقاء الأستاذ البنا الذين يعرفون للرجل فضله و قدره ، و كان الأستاذ البنا يبادله التقدير . كان حزب الكتلة الذي يرأسه مكرم عبيد يصدر جريدته الكتلة و قد وصفت ما حدث ، كتبه مأمون الشناوي بدون توقيع في عددها ( 11 نوفمبر 1949 ) بعد عهد إبراهيم عبد الهادي و نقله عنها كتاب " من قتل حسن البنا " ( ص : 542 ) . قال : " نقل جثمان حسن البنا إلى بيته في سيارة تحرسها سيارة مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين . و في أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة و نزل الجند فأحاطوا ببيت الفقيد ، و لم يتركوا ثقباً ينفذ إليه الشك إلا وسدوه بجندي و سلاح ، وقف والد الشيخ البنا ، ذلك الرجل الهرم الذي جاوز التسعين عاماً ، و لم تبد عليه عوامل السنين .
عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، و قيل له : إنهم لن يسلموا جثته إلا إذا وعدهم بأن تدفن في الساعة التاسعة بلا احتفال ، وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى قصر العيني إلى القبر .
و قبيل الفجر تتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها قلب الشيخ كان وحده الذي بعلم و ينظر ، فإن أشقاء الفقيد جميعاً كانوا داخل المعتقلات ، فتحوا الباب و أدخلوا الجثة متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران ، و لم يعلم بوصولها سواه .
و ظل حصار رجال البوليس مضروباً لا حول البيت وحده بل حول الجثمان نفسه ، لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منه مهما كانت صلته بالفقيد .
و قام الأب نفسه بإعداد جثة ولده و تجهيزها للدفن ، فإن أحداً من الرجال المختصين بذلك لم يسمح له بالدخول . ثم نزلت الجثة حيث وضعت في النعش و بقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير .
نعش تحمله النساء!!!
طلب إلى رجال البوليس أن يحضروا رجالاً كي يحملوا النعش فرفضوا . قال لهم : ليس في البيت رجال . أجابوا فلتحملها النساء . و خرج نعش الفقيد محمولاً على أكتاف النساء و في مقدمتهم فتاة قوية صبور تهتف بأبيها : قر عيناً يا أبتاه فلن نتخلف عن رسالتك ، و لئن منعت الحكومة من يشيع جنازتك ، و ا أسفاه لنذالة الحكام ، فحسبنا عزاء و جزاء أن أرواح الشهداء تمشي معنا ، و تشيع عن أهل السماء ما عجز عن تشييعه أهل الأرض .
و خرجت الجنازة الفريدة في الطريق ، فإذا بالشارع كله قد صف برجال البوليس ، و إذ بعيون الناس من النوافذ و الأبواب تصرخ ببريق الحزن و الألم و السخط على الظلم المسلح ، الذي احتل جانبي الطريق .
و عندما وصل الموكب الحزين إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد كان المسجد خالياً من الناس حتى من الخدم ، فإن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله و أمروا من فيه بالانصراف كي لا تتم الصلاة على الجثمان . و وقف الأب أمام النعش يصلي ، فانهمرت دموعه في ابتهالات إلى السماء ، و مضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعي ، فوري البنا التراب و عاد الجمع القليل إلى البيت الباكي الحزين .
و عادت النساء الثلاث اللاتي حملن النعش على أكتافهن ، و عاد الوالد الحزين ( أحسب الثلاث المذكورات كن أم الأستاذ و زوجته و ابنته وفاء ) و هكذا في اثنتي عشرة ساعة قتل الشيخ البنا ، و شرح ، و غسل و دفن ، و انطوت صفحة حياته . و مضى النهار و جاء الليل ، فحرم على أفراد الأسرة إقامة العزاء و تلاوة القرآن .
و لم يحضر أحد من المعزين ، لأن الجنود منعوا الناس من الدخول ، أما الذين استطاعوا الوصول للعزاء فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم ، فقد قبض عليهم و أودعوا المعتقلات ، عدا مكرم عبيد باشا الذي تعرض لعنات رجال البوليس حين أرادوا أن يمنعوه من واجب العزاء فلم يمكنهم ، و دخل البيت و أزجى كلمات العزاء .
القتلة
كوفئ من القتلة محمود عبد المجيد وحده ، بعد شهرين من الجريمة تذكرت إدارة الجنايات بوزارة الداخلية أن محمود عبد المجيد قام بمجهودات الأمن ، قبل 3 سنوات ، و أنه يستحق مكافأة .
قرر وكيل الأمن العام في 5 أبريل 1949 منحه مكافأة قدرها 300 جنيه عن جهوده في جرجا عام 1946 . و عندما عرضت الأوراق على عبد الرحمن عمار قرر زيادة المكافأة إلى 600 جنية .
و كان المبلغ تافهاً إزاء بشاعة الجريمة و شخصية المجني عليه . و لكن محمود عبد المجيد تمتع أيضاً بالحماية و حتى نهاية ذلك العهد . أنعم عليه - في 4 يوليو 1949 - برتبة البكوية من الدرجة الثانية لما يبديه من جهود في خدمة الأمن . و عين مديراً لجرجا في أبريل 1952 .
أما عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية فإن حسين سري باشا نقله من وزارة الداخلية ليكون وكيلاً لوزارة المواصلات في أغسطس 1949 ، و أصابه مرض قاس و عانى من آلام رهيبة و عندما قامت حركة يوليو سنة 1952 وجده المحقق المستشار حسني داود في المستشفى فكان يحقق معه و هو على سرير المرض .
و أمر فؤاد سراج الدين باشا - و هو وزير للداخلية عام 1950 بخصم 15 يوماً من مرتب المقدم حسين كامل بعد أن اتهمه مرشح وفدى في الانتخابات بأنه ناصر الدكتور نور الدين طراف ففاز في الانتخابات .
و استعد محمد محفوظ لاستقبال الترقية فقام بتفصيل بدلة المساعد و وضع فوق الأكتاف شرائطها و لكن وزارة الداخلية في عهد حسين سري رفضت ذلك و وجدت هذه البدلة و سلمت للجيش كدليل اتهام .
و طلب محمود عبد المجيد ترقية العريف أحمد حسين و لكن إدارة الشرطة أبت لأنه يجهل القراءة و الكتابة ، كما رفضت منحة علاوة المباحث و هي جنيه شهرياً لأنه ليس من قوة المباحث .
و لكن أحمد حسين - عقب الجريمة بأيام قليلة - زار حرم النقراشي فقدمت إليه صورة لقرينها الراحل و عليها هذه الكلمات .
هدية مني إلى البطل العريف أحمد حسين . و أهدته أيضاً قطعتين من الصوف الإنجليزي و حقيبة بداخلها ملابس حريرية لزوجته ورزمة أوراق مالية مجموعها 400 جنية .
كيف دفن
لقد كان الإمام البنا غريبا فى حياته ، فكانت حياته على نمط ربانى ، كان لله فيها حركاته وسكناته فى حله وترحاله ، فكان الله معه . وكان غريبا فى مماته، فهو الشهيد الأعزل ، شهيد القرن العشرين كما قيل عنه ، شهيد تتآمر عليه دولة وحكومة وتتآمر عليه قوى الشر العالمية فكان موته مفرحاً ومسعداً لأعداء الإسلام . ذكر الشهيد العملاق سيد قطب (رضى الله عنه ) أنه عندما أستشهد الإمام حسن البنا اجتاحت الولايات المتحدة موجة من الفرح ، وفتحت البارات بالمجان وقالوا "لقد قتل اليوم هتلر الشرق " وسمع قرع أجراس الكنائس وتبادل الناس التهانى .
وكان الإمام كذلك غريبا فى جنازته ودفنه على نحو أظنه لم يسبقه أحد إليه ولم يتكرر مثل هذه الجنازة نشرت جريدة الكتلة الوفدية التى كان يصدرها الأستاذ مكرم عبيد باشا وصف دفن الإمام الشهيد وما رافقه من أحداث وفظائع وقد جعلته تحت عناوين تكفى تلاوتها للعن الظالمين المجرمين وهى ( القبض على المعزيين .. ومنع الصلاة على جثمان الفقيد .. منع تلاوة القرآن علي روحه .. " ثم نشرت الوصف التاريخى الآتى : ـ نقلت جثت الفقيد إلى بيته فى سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين وقد أنساهم هول الجريمة أن الموتى لا يتكلمون ولا ينطقون. وفى أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة ، ونزل الجند ،فأحاطوا بيت الفقيد .. ولم يتركوا ثقباً ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح .
أما والد الشيخ البنا الشيخ الهرم الذى تجاوز التسعين عاما فلم ينوء بها .. ولم تبد عليه عوامل السنين كما بدت فى هذه الليلة النكباء فقد عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط ساعة وقوعها وظل ساهراً تفجعه الأحزان . منتظرا الفجر ليؤدى فريضة الله ويقول له : " سبحانك ..عدالتك ياربى .. لقد قتلوا ولدى " وتتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ طحن الرحى . كان الوالد يعلم وينتظر ، فإن أشقاء الفقيد جميعا كانوا داخل المعتقلات . وفتحوا الباب وأدخلوا الجثة ، وتشجع الوالد المحطم بالبكاء فقالوا : لابكاء ولاعويل ..بل ولامظاهر حداد ولا أحد يصلى عليه سواك .
ولنترك الشيخ أحمد البنا والد الإمام الشهيد يتم القصة :
" أُبلغت نبأ موته فى الساعة الواحدة وقيل لى أنهم لن يسلموا الجثة إلا إذا وعدتهم بأن تدفن الساعة التاسعة بلا احتفال وإلا فإنهم سيطرون إلى حمل الجثة من مستشفى القصر العينى إلى القبر. واضررت إذاء هذه الأوامر إلى أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة رغبة منى فى أن تصل جثة ولدى إلى بيته فألقى عليه نظرة أخيرة ، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلى البيت متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران ولم يعلم بوصولها سواى .. وظل حصار البوليس مضروبا ،لاحول البيت وحده ،بل وحول الجثة نفسها ، ولا يسمحون لإنسان بلاقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد ، وقمت بنفسى بإعداد جثة ولدى للدفن .. فإن أحدا من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول .
ثم أنزلت الجثة .. حيث وضعت فى النعش .. وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير ؟ طلبت إلى رجال البوليس أن يحضروا رجال يحملوا النعش فرفضوا . قلت لهم : ليس فى البيت رجال . فأجابه فليحمله النساء . وخرج نعش الفقيد محمولا على أكتاف النساء ومشيت الجنازة الفريدة فى الطريق ، فإذا بالشارع كله قد رصف برجال البوليس ،وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم .. والسخط على الظلم المسلح الذى احتل جانبى الطريق .
وعندما وصلنا إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد كان المسجد خاليا من الناس ، حتى من الخدم وفهمت بعد ذلك أن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله وأمروا من فيه بالانصراف ريثما تتم الصلاة على جثمان ولدى . ووقفت أمام النعش أصلى فأنهمرت دموعى ،لم تكن دموعى بل كانت ابتهالات إلى السماء أن يدرك الله الناس برحمته ، ومضى النعش إلى مدفن الإمام ، فوارينا التراب هذا الأمل الغالى وعدنا إلى البيت البالى الحزين ومضى النهار وجاء الليل ولم يحضر أحد من المعزين لأن الجنود الأشداء منعوا الناس من الدخول ، أما الذين أستطاعوا الوصول إلينا للعزاء فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم فقد قبض عليهم ، وأودعوا المعتقلات إلا شخص واحدا هو مكرم عبيد باشا . فى أثنتى عشرة ساعة قتل الشيخ البنا ، وشُرح وغُسل ودفن وانطوت حياته .
عادت النساء الثلاثة التى حملن النعش على أكتافهن وعاد الوالد الواله الحزين وقبل أن يغش الظلام مدافن الإمام الشافعى كانت شلة من الجنود تحاصر الطرق المؤدية إلى المقبرة وقوات كبيرة تحيط بمنزل الفقيد لتمنع الداخلين ولو كانوا مرتلى آية الذكر الحكيم .. وتقبض على الخارجين ولو كانوا من جيران الراحل الكريم .
وهكذا رحل الإمام الشهيد الذى مات فى عمر الزهور بعد أن أحيا شعباً .. وأيقظ أمة .. وكان قذى فى عيون الحكام والأحتلال .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ من المؤمنين رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }
صدق الله العظيم
ولقد مرت عملية الاغتيال الآثم بعدة مراحل كانت تمهيدا للجريمة الكبرى وكانت على النحو التالى : ـ
أولاً : حل الجماعة واعتقال أفرادها ومصادرة ممتلكتها .
ثانيا : عدم اعتقال الإمام البنا ، وتركه طليقا بعيدا عن إخوانه الذين يفدونه بأرواحهم ، وذلك حتى يتمكنوا من قتله أعزل من الأعوان والأحباب .
ثالثا : تجريده من الحماية الشخصية ، حيث تم تجريده من مسدسه الخاص وسحب رخصته ، وكذلك الاستيلاء على سيارته الخاصة حتى يحد ذلك من حركته فيضطر إلى استخدام وسائل المواصلات العامة مما يسهل أن يكون تحركه تحت أعينهم .
رابعا : تحديد إقامته بمدينة القاهرة وعدم السماح له بمغادراتها إلى أى مكان آخر داخل البلاد أو خارجها .
خامسا : الاستدراج إلى مكان ووقت الجريمة الشنيعة .
كيف اغتيل
تفاصيل استشهاده ( 12 فبراير 1949)
في وحشة الليل ، وسور الغدر ، ويقظة الجريمة كان الباطل بما طبع علية من غرور و ما جبل عليه من قسوة ، و ما مرد عليه من لؤم ، كان مستخفياً ينساب في أحياء القاهرة الغافلة ، يجمع سلاحه و يبث عيونه ، و يسوق أذنابه من الكبار الصغار و يعد عدته ، لكي يغتال حسن البنا ، مرشد الإخوان المسلمين ، و ليس قتل الأنبياء و الصديقين في هذه الدنيا بالأمر الصعب .
إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديماً على أنبياء الله ، فذبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة أفكثير على من تلقفوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض أن يردوا هذا المورد ؟ بلي و من المترفين و أن ترك حملة الوحي يهونون مع الوحي ، لا بأس ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول : " اللهم آتني أفضل ما آتيته عبادك الصالحين ، فقال له : إذن يعقر جوادك و يراق دمك ، حتى الجواد يقتل مع صاحبه ، و أصابه من الشهادة مسها القاني ، و لو كان مربوطاً بعربة بضاعة لعاش دهراً .
و كذلك أبى ربك أن يسترجع المختارين من عباده ، بعدما أدوار رسالتهم في الحياة أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة ، و جراحاتها الغادرة فمزق علج من المجوس أحشاء عمر ، و عدا مأفون غر على حياة على ، و قتل يزيد الماجن الحسين سبط الرسول و تآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا ، و لن نزال سلسلة الشهداء تطول حلقة ما بقى الدنيا صراع بين الضياء و الظلام .
التمهيد للجريمة
توجه حسن البنا إلى مطار القاهرة للحج في 23 سبتمبر 1948 و معه جواز سفر يبيح له السفر إلى جميع أنحاء العالم ، و على الجواز أيضاً تأشيرة تسمح له بأن يستقل طائرة شركة سعيدة ، و لكن العقيد حسن فهمي مفتش الجوازات سحب منه الجواز ، و ألغي جميع الدول المصرح له بالسفر إليها و اكتفي من بينها بتأشيرة الحج فقط . و قال إنه فعل ذلك بناء على تعليمات من عمر حسن مدير القسم المخصوص - مباحث أمن الدولة .
و سافر المرشد العام إلى المملكة العربية السعودية فأبرقت وزارة الداخلية إلى القنصل المصري في جدة بعدم السماح للبنا بالسفر إلى أية دولة عربية أخرى . قال عبد القادر عودة وكيل جماعة الإخوان إن الحكومة لم تستطع منع البنا من السفر لأداء فريضة الحج ، وإلا قيل إنها صدته عن سبيل الله و البيت الحرام ، و من يفعل ذلك يعد كافراً .
و عاد حسن البنا في 28 نوفمبر 1948 ، و تقرر حل الجماعة في 8 ديسمبر و صدرت الأوامر إلى قوات الشرطة بالاستيلاء على شعب الإخوان ، توجهت قوة من رجال الأمن السياسي و القسم المخصوص حيث حاصرت المركز العام بالحلمية الجديدة و قبضت على من فيه و ملأت بهم السيارات . بقى المرشد ينتظر دوره ، ولكن أحداً لم يسأله ذلك ، ورآه سكرتيره سعد الدين الوليلي - الذي اعتقل أيضاً - يصعد سلم إحدى السيارات اللوري فمنعه رجال الشرطة من الصعود ، و تشبث بالسيارة و لكن ضابطاً أبلغه بأنه لم تصدر أوامر باعتقاله ، و يزداد البنا تشبثاً بالسيارة و اعتلى أولى درجاتها سلمها و هو يصيح : لا تأخذوا هؤلاء بجريرتي فأنا أولى منهم بالاعتقال ، و إذا كان الإخوان عصابة إجرامية فأنا رئيسها ! .
و لكن تحركت السيارة بالمعتقلين فذهب إلى دار المحافظة و لكن رجال الشرطة رفضوا اعتقاله . و اعتقل أعضاء مكتب الإرشاد و كثير من الإخوان و بقى مؤسس الجماعة و رئيسها و مرشدها العام وحده لم يعتقل . ضاعفت الحكومة إجراءاتها المتشددة ، راحت تقبض كل يوم على مئات لأتفه الأسباب ، قصاصة ورق ، نسخة من عدد قديم من جريدة أو مجلة الإخوان ، بطاقة من حسن البنا . و اعتقل معظم من يمتون إليه بصلة : أشقاؤه و منهم جمالالبنا الذي يعرف القسم السياسي أنه ليس من الإخوان ، و أصهار الشيخ و بقى زوج شقيقته عبد الكريم منصور - المحامي - لأنه اختفى فترة ثم عاد إلى الظهور .
و لم يعد للشيخ حرس سوى شقيقه ضابط الشرطة اليوزباشي عبد الباسط ، الذي يمشى مسلحاً في ركاب أخيه ، فلما عثر مع عبد الباسط على مسدس أخذوه منه وقبضوا عليه في 13 يناير . و كان قد رخص للشيخ البنابحمل مسدس بصفته رئيساً لإحدى الهيئات فتقدم يوم 5 يناير بطلب لتجديد الترخيص ، ظلت السلطات مترددة في الأمر و أخيراً قررت في 30 يناير ، رفض الطلب . و صدر أمر عسكري في 7 فبراير بسحب الأسلحة الشخصية من الإخوان أبلغ للمحافظات بعد 48 ساعة ، و لكن قسم شرطة الخليفة سحب مسدس الشيخ البنا ، فقد كتب اللواء أحمد طلعت وكيل الحكمدار و المشرف على القسم السياسي على طلب التجديد يقول " المذكور هو مرشد جماعة الإخوان المنحلة " .
و قال حكمدار شرطة القاهرة مدافعاً عن هذا القرار بأن الشيخ لا يستطيع استعمال المسدس . لم يجد الشيخ حلاً إلا أن يكتب خطاباً إلى فؤاد شيرين محافظ القاهرة يقول فيه :
" أشعر أني مهدد بالقتل ، أرجو تعيين جندي مسلح لحراستي على نفقتي الخاصة " . و مضت أيام دون أن يفوز برد . و توجه الشيخ إلى مجلس الدولة لحضور الدعوى التي أقامها ضد الحكومة لحل الجمعية ففتشه أحد رجال الشرطة تفتيشاً دقيقاً ، و كذلك صهره عبد الكريم منصور للتأكد من أنهما لا يحملان مسدسات .
و كانت للبنا سيارة قديمة اشتراها بأقساط شهرية من مرتبه يستعملها في تنقلاته ، و هذه السيارة لا صله لها إطلاقاً بأموال الإخوان المسلمين ، ولا علاقة لها بشركات الجماعة ، فلما حلت الجماعة سحبت وزارة الداخلية هذه السيارة ضمن ممتلكات الإخوان المصادرة . أخذ سيارة عبد الحكيم عابدين ، و هي سيارة خاصة ليست ملكاً للجماعة ، و لمت الشيخ البنا لم يجدها أمام البيت فذهب إلى قسم الشرطة يبلغ عن سرقتها فقيل له : الحكومة صادرت السيارة . أصبح البنا بلا حارس ، أو مسدس ، أو سيارة ولا يستطيع الانتقال إلا بوسائل النقل العام أو في سيارة تاكسي ، و بقى التليفون يتصل ، و من خلاله بالمسئولين الوسطاء يحاول الإفراج عن بعض الإخوان المعتقلين و تخفيف التعذيب عن البعض الآخر . فوجئ ذات يوم بأن التليفون فقد الحرارة بأمر وزارة الداخلية .
و قطع يوم 18 يناير عن بيت المرشد الخط التليفوني الفرعي الذي يتصل بمقر الجماعة لأن المركز العام مغلق طبقاً لقرار الحل . و أحس بالحصار يضيق حوله ، و أنه يكاد سجيناً لا يوزر ولا يزار فطلب اعتقاله ، و قال أنه لا يوجد مبرر واحد لبقائه حراً ، و لكن النقراشي باشا قال : لا خطر من حسن البنا بعد قص أجنحته . أخذ البنا يتردد على مكتب فتحي رضوان المحامى بعد حل الجماعة ، و كان يوافيه عدد قليل جداً من الإخوان يحيونه ، و يتحدثون إليه لحظات سريعة فإن الاعتقال كان يطارد الجميع . استمرت رقابة الشرطة على الشيخ . المخبرون و الجنود يقبضون على من يمرون أمام بيته أو يزورونه و يقودونهم إلى قسم الشرطة لسؤالهم و يفرج عن البعض و يعتقل كثيرون . كلف أحد الكونستبلات بمراقبة الشيخ يتعقبه بموتوسيكل حيناً ، و في سيارة أحياناً ، فلما ضاق المرشد بهذه الرقابة اتصل باللواء أحمد عبد الهادي حكمدار شرطة القاهرة و طلب منه رفعها فوافق الحكمدار في 4 يناير ، كما قال .
و لكن الحقيقة أن مخبراً اسمه عبد المنعم إبراهيم ظل يراقب الشيخ ، حتى اليوم السابق للجريمة بناء على تعليمات الرائد محمد صالح ضابط القسم السياسي ، و بذلك بقى المرشد العام موضع المراقبة الدقيقة ، تحت عين وزارة الداخلية تحصى عليه كل تحركاته . و اعترف مخبر اسمه أنور على أحمد أنه اشتعل في مراقبة المرشد العام حتى الثالثة بعد الظهر يوم 12 فبراير لمراقبة حركاته و سكناته ، و معرفة اتصالاته من ناحية ، و منع هربه من ناحية أخرى فلا يفلت من أيدي رجال الشرطة . و لم يقل المخبر أن الهدف هو أن يظل المرشد في قبضة رجال الشرطة حتى الوقت المحدد الذي تتيحه الفرصة لاغتياله .
و خاف أعضاء جمعية الشبان المسلمين على أنفسهم من عنت الدولة فاعترض و كيلها محمد زكى على باشا على حضور الشيخ إلى مقر الجمعية . و لكن صالح حرب باشا زار المرشد العام في بيته و قال له : اعتبر دار الشبان دار الإخوان ، دارك و مفتوحة لك دائماً . عرفت الحكومة بذلك فاتصل المسئولون بصالح حرب و قالوا له : هذا تحد لأمر الحل . رفض صالح حرب الخضوع قائلاً : هذه دار المسلمين جميعاً و لن يوصد بابها في وجه مسلم و من باب أولى لا يوصد في وجه حسن البنا و ستظل داره ما دام راغباً في زيارتها .
و هكذا أصبحت جمعية الشبان المسلمين المكان الوحيد الذي يتردد عليه حسن البنا فدفع اشتراك ه سنوات سابقة لم يسدد عنها الاشتراك . و كتب بخط يده في 4 فبراير طلباً ليكون عضواً في الجمعية ، و قال إنه صحفي هدفه تحقيق أغراضها ، فتقرر أن يعرض طلب الالتحاق على مجلس الإدارة يوم 8 فبراير لاتخاذ قرار فيه .
أراد حسن البنا أن يسافر للإقامة في عزبة الشيخ عبد الله النبراوي بدائرة مركز قليوب و لكنه خشي أن يؤدي ذلك إلى متاعب للشيخ النبراوي و أسرته فأرسل إلى محافظ القاهرة فؤاد شيرين يستأذنه في السفر . استأذن المحافظ رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي الذي طلب منه عدم الرد . و علق رئيس الوزراء - شفاهة - على طلب المحافظ قائلاً إنه - أي المحافظ - من الإخوان المسلمين .
و في اليوم التالي لوصول خطاب البنا إلى محافظ القاهرة - 10 فبراير - اعتقل النبراوي و معظم أفراد أسرته ، و هو شيح تجاوز الثمانين و مصاب بشلل نصفي ، و فتشت قريته بحثاً عن أسلحة .
و استمرت محاولات اغتيال المرشد العام
تقرر أن يتوجه إلى منزله بعد منتصف الليل الضابطان اليوزباشي عبده أرمانيوس و الرائد حسين كامل لإبلاغه أن النيابة أمرت باعتقاله ، ثم يقومان بدفنه في حفرة أعدت في الهرم عند طريق الفيوم . و لكن اللواء أحمد طلعت رفض الموافقة على تنفيذ هذه الخطة .
و وقف أحمد حسين مخبر الشرطة الذي نقل من جرجا إلى القاهرة أمام بيت المرشد في الحلمية لاغتياله ، و لكن الخفير الخاص للشيخ البنا اشتبه في أمره فأمسك به و اقتاده إلى قسم الدرب الأحمر و هناك أبرز بطاقة الشرطة للمأمور فقال للخفير : هذا تاجر مواشي ولا علاقة له بشيء ، و افرج عنه .
و جلس أحمد حسين في سيارة المقدم محمد وصفي في الشارع عندما مر المرشد مع مصطفى مرعي ، و كان مقرراً أن يطلق أحمد حسين الرصاص على الشيخ البنا ، ثم يفر في سيارة محمد وصفي و كان المقدم عبد الرءوف عاصم و اليوزباشي مصطفى علوان مستعدين للتدخل عند الضرورة ، و لكن الرائد حسين كامل صرخ في أحمد حسين قائلاً : امنع يدك فقد خشي أن يجتمع الناس للقبض على القاتل . قال شمس الدين الشناوي المحامي للشيخ البنا : إن بعض شباب السعديين و على رأسهم فتحي عمر و كامل الدماطي اجتمعوا في ناديهم و أقسموا على اغتيالك ثأراً للنقراشي ، أريدك أن تحتاط . قال المرشد العام : لقد منعوني حتى من السفر إلى الخارج .
و يلقي البنا يوم 10فبراير بالدكتور عزيز فهمي المحامي والكاتب السياسي وزعيم الطليعة الوفدية لمراجعة بعض قضايا الإخوان . سأله الدكتور عزيز : هل معك سلاح ؟ أجاب : السلاح أخذوه و الأخ سجنوه . و هكذا أصبح البناينتظر الموت فقد جردته الدولة من سلاحه الذي مرخصاً له بحمله ، و حركته مكن الحراسة التي كانت مضروبة عليه فأصبح هدفاً يؤمن الوصول إليه ، فإن جمعية الشبان المسلمين هي المكان الوحيد الذي يدخله إذا غادر بيته . و صفه عبد القادر عودة في تلك الأيام فقال : صار الشيخ البنا عصفوراً في قفص .
الجنازة
اتصل البوليس السياسي بالشيخ أحمد عبد الرحمن البنا والد الإمام الشهيد في بيته ليخبروه الخبر و يخيروه بين أمرين ، أن يحضروا جثمان ابنه إلى بيته ليقوم بدفنه دون أي احتفال أو جنازة ، أو يقوموا هم بدفنه بمعرفتهم دون أن يراه ، و في ثبات وصبر و إيمان اختار الشيخ الأمر الأول ، و تحت جنح الظلام في جوف الليل حملوا جريمتهم و جريمة عهدهم بل جريمة عصرهم إلى ذلك المنزل المتواضع بالحلمية الجديدة ، و لم يغفلوا عن حصار البيت ، فلا أحد يدخل ولا أحد يخرج .
و رفضوا استدعاء الحانوتي للقيام بما يلزم فقام الشيخ بنفسه و بدون معاونة من أحد بتغسيل ولده الشهيد الذي لم يجاوز الثالثة و الأربعين من عمره ، غسله و كفنه ، و احضروا له نعشاً فوضعه فيه ، ثم طلب إلى رجال البوليس حمل الجنازة ، فقالوا تحمله النساء ، و كان الرجل شيخاً كبيراً و هن العظم منه و اشتعل الرأس شيباً ، فعاونه في حمله نساء بيته المؤمنات الصابرات إلى مسجد قيسون للصلاة عليه و هي مسافة مجهدة ، و كان البوليس ينتشر في المنطقة و قد أمر بإغلاق النوافذ و الأبواب حتى لا يرى أحد هذه الجنازة التي لم يذكر التاريخ قديمه و وسيطه و حديثه مثيلاً لها ، لا في الشرق ولا في الغرب ولا في أي مكان أو زمان ، لم يسمح لأحد أن يرفع إصبعه بالشهادة ، و من فعل اعتقل ، و استطاع أفراد قلائل من الإخوان الوصول إلى المكان فاعتقلوا ، مثل محمد الغزالي الجبيلي و إبراهيم صلاح و محمود يونس رحمه الله .
و تم الدفن في مقابر الأسرة بالإمامين ، و الإمامان هنا هما الإمام الشافعي و الإمام الليث بن سعد لكل منهما ضريح في مسجده ، و دفن الإمام حسن البنا في مقبرته بعد هذين المسجدين في مكان معروف هناك ، ورابط رجال البوليس و معهم إحدى سياراتهم المدرعة على القبر شهوراً بعدها لا ندري لماذا لعلهم خافوا أن يأتي أحد فيقرأ لفاتحة .
و أذاعت حكومة إبراهيم عبد الهدي أن الإخوان المسلمين قتلوا مرشدهم و حفظ التحقيق و قيد ضد مجهول ، و لم يكن أحد يجهل من المحرض ولا من القاتل ، لقد كانت أسماء محمود عبد المجيد و المخبرين الذين أطلقا الرصاص أحمد حسين جاد و أحمد عبد الحميد و سائق السيارة عبود محفوظ و محمد الجزار الذي أراد أن يخفي معالم الجريمة كانت كلها معروفة لنا جميعاً ، و ظل أصحابها في أمان تام حتى وقع انقلاب 23 يولية 1952 و أراد أصحابه التقرب إلى الجماهير و التشهير بالعهد البائد و نشر غسيله القذر و فضح مخازيه ، فكانت هذه القضية من أبرز ما يتاجر به في ذلك ، فأعيد التحقيق و قدمت القضية إلى المحاكم و صدر حكم القضاء على هؤلاء جميعاً بالسجن مدداً متفاوتة بدأ تنفيذها ، و لكن ما إن ساءت الصلات بين الإخوان و بين جمال عبد الناصر حتى أصدر عفواً عن هؤلاء القتلة و تم الإفراج عنهم ، الأمر لا يحتاج إلى أي تعليق .
لم يقم للشهيد مأتم ، و كل من حاول الوصول إلى البيت وصل إلى معتقل جبل الطور بالطرف الجنوبي لشبه جزيرة سيناء ، قريباً من الوادي المقدس طوى حيث كلم الله موسى
لا إسعاف .. ولا جنازة .. ولا مأتم
و لم يستطع الوصول إلى البيت و تقديم العزاء للشيخ الوالد إلا مكرم عبيد باشا الوزير السابق استطاع الوصول و القيام بالواجب لسببين :
الأول : أنه كان قبطياً فلم يكن محل تهمة بانتمائه إلى الإخوان المسلمين .
و الثاني أنه كان رجلاً . و لقد كان مكرم عبيد من أصدقاء الأستاذ البنا الذين يعرفون للرجل فضله و قدره ، و كان الأستاذ البنا يبادله التقدير . كان حزب الكتلة الذي يرأسه مكرم عبيد يصدر جريدته الكتلة و قد وصفت ما حدث ، كتبه مأمون الشناوي بدون توقيع في عددها ( 11 نوفمبر 1949 ) بعد عهد إبراهيم عبد الهادي و نقله عنها كتاب " من قتل حسن البنا " ( ص : 542 ) . قال : " نقل جثمان حسن البنا إلى بيته في سيارة تحرسها سيارة مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين . و في أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة و نزل الجند فأحاطوا ببيت الفقيد ، و لم يتركوا ثقباً ينفذ إليه الشك إلا وسدوه بجندي و سلاح ، وقف والد الشيخ البنا ، ذلك الرجل الهرم الذي جاوز التسعين عاماً ، و لم تبد عليه عوامل السنين .
عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، و قيل له : إنهم لن يسلموا جثته إلا إذا وعدهم بأن تدفن في الساعة التاسعة بلا احتفال ، وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى قصر العيني إلى القبر .
و قبيل الفجر تتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها قلب الشيخ كان وحده الذي بعلم و ينظر ، فإن أشقاء الفقيد جميعاً كانوا داخل المعتقلات ، فتحوا الباب و أدخلوا الجثة متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران ، و لم يعلم بوصولها سواه .
و ظل حصار رجال البوليس مضروباً لا حول البيت وحده بل حول الجثمان نفسه ، لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منه مهما كانت صلته بالفقيد .
و قام الأب نفسه بإعداد جثة ولده و تجهيزها للدفن ، فإن أحداً من الرجال المختصين بذلك لم يسمح له بالدخول . ثم نزلت الجثة حيث وضعت في النعش و بقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير .
نعش تحمله النساء!!!
طلب إلى رجال البوليس أن يحضروا رجالاً كي يحملوا النعش فرفضوا . قال لهم : ليس في البيت رجال . أجابوا فلتحملها النساء . و خرج نعش الفقيد محمولاً على أكتاف النساء و في مقدمتهم فتاة قوية صبور تهتف بأبيها : قر عيناً يا أبتاه فلن نتخلف عن رسالتك ، و لئن منعت الحكومة من يشيع جنازتك ، و ا أسفاه لنذالة الحكام ، فحسبنا عزاء و جزاء أن أرواح الشهداء تمشي معنا ، و تشيع عن أهل السماء ما عجز عن تشييعه أهل الأرض .
و خرجت الجنازة الفريدة في الطريق ، فإذا بالشارع كله قد صف برجال البوليس ، و إذ بعيون الناس من النوافذ و الأبواب تصرخ ببريق الحزن و الألم و السخط على الظلم المسلح ، الذي احتل جانبي الطريق .
و عندما وصل الموكب الحزين إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد كان المسجد خالياً من الناس حتى من الخدم ، فإن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله و أمروا من فيه بالانصراف كي لا تتم الصلاة على الجثمان . و وقف الأب أمام النعش يصلي ، فانهمرت دموعه في ابتهالات إلى السماء ، و مضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعي ، فوري البنا التراب و عاد الجمع القليل إلى البيت الباكي الحزين .
و عادت النساء الثلاث اللاتي حملن النعش على أكتافهن ، و عاد الوالد الحزين ( أحسب الثلاث المذكورات كن أم الأستاذ و زوجته و ابنته وفاء ) و هكذا في اثنتي عشرة ساعة قتل الشيخ البنا ، و شرح ، و غسل و دفن ، و انطوت صفحة حياته . و مضى النهار و جاء الليل ، فحرم على أفراد الأسرة إقامة العزاء و تلاوة القرآن .
و لم يحضر أحد من المعزين ، لأن الجنود منعوا الناس من الدخول ، أما الذين استطاعوا الوصول للعزاء فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم ، فقد قبض عليهم و أودعوا المعتقلات ، عدا مكرم عبيد باشا الذي تعرض لعنات رجال البوليس حين أرادوا أن يمنعوه من واجب العزاء فلم يمكنهم ، و دخل البيت و أزجى كلمات العزاء .
القتلة
كوفئ من القتلة محمود عبد المجيد وحده ، بعد شهرين من الجريمة تذكرت إدارة الجنايات بوزارة الداخلية أن محمود عبد المجيد قام بمجهودات الأمن ، قبل 3 سنوات ، و أنه يستحق مكافأة .
قرر وكيل الأمن العام في 5 أبريل 1949 منحه مكافأة قدرها 300 جنيه عن جهوده في جرجا عام 1946 . و عندما عرضت الأوراق على عبد الرحمن عمار قرر زيادة المكافأة إلى 600 جنية .
و كان المبلغ تافهاً إزاء بشاعة الجريمة و شخصية المجني عليه . و لكن محمود عبد المجيد تمتع أيضاً بالحماية و حتى نهاية ذلك العهد . أنعم عليه - في 4 يوليو 1949 - برتبة البكوية من الدرجة الثانية لما يبديه من جهود في خدمة الأمن . و عين مديراً لجرجا في أبريل 1952 .
أما عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية فإن حسين سري باشا نقله من وزارة الداخلية ليكون وكيلاً لوزارة المواصلات في أغسطس 1949 ، و أصابه مرض قاس و عانى من آلام رهيبة و عندما قامت حركة يوليو سنة 1952 وجده المحقق المستشار حسني داود في المستشفى فكان يحقق معه و هو على سرير المرض .
و أمر فؤاد سراج الدين باشا - و هو وزير للداخلية عام 1950 بخصم 15 يوماً من مرتب المقدم حسين كامل بعد أن اتهمه مرشح وفدى في الانتخابات بأنه ناصر الدكتور نور الدين طراف ففاز في الانتخابات .
و استعد محمد محفوظ لاستقبال الترقية فقام بتفصيل بدلة المساعد و وضع فوق الأكتاف شرائطها و لكن وزارة الداخلية في عهد حسين سري رفضت ذلك و وجدت هذه البدلة و سلمت للجيش كدليل اتهام .
و طلب محمود عبد المجيد ترقية العريف أحمد حسين و لكن إدارة الشرطة أبت لأنه يجهل القراءة و الكتابة ، كما رفضت منحة علاوة المباحث و هي جنيه شهرياً لأنه ليس من قوة المباحث .
و لكن أحمد حسين - عقب الجريمة بأيام قليلة - زار حرم النقراشي فقدمت إليه صورة لقرينها الراحل و عليها هذه الكلمات .
هدية مني إلى البطل العريف أحمد حسين . و أهدته أيضاً قطعتين من الصوف الإنجليزي و حقيبة بداخلها ملابس حريرية لزوجته ورزمة أوراق مالية مجموعها 400 جنية .
كيف دفن
لقد كان الإمام البنا غريبا فى حياته ، فكانت حياته على نمط ربانى ، كان لله فيها حركاته وسكناته فى حله وترحاله ، فكان الله معه . وكان غريبا فى مماته، فهو الشهيد الأعزل ، شهيد القرن العشرين كما قيل عنه ، شهيد تتآمر عليه دولة وحكومة وتتآمر عليه قوى الشر العالمية فكان موته مفرحاً ومسعداً لأعداء الإسلام . ذكر الشهيد العملاق سيد قطب (رضى الله عنه ) أنه عندما أستشهد الإمام حسن البنا اجتاحت الولايات المتحدة موجة من الفرح ، وفتحت البارات بالمجان وقالوا "لقد قتل اليوم هتلر الشرق " وسمع قرع أجراس الكنائس وتبادل الناس التهانى .
وكان الإمام كذلك غريبا فى جنازته ودفنه على نحو أظنه لم يسبقه أحد إليه ولم يتكرر مثل هذه الجنازة نشرت جريدة الكتلة الوفدية التى كان يصدرها الأستاذ مكرم عبيد باشا وصف دفن الإمام الشهيد وما رافقه من أحداث وفظائع وقد جعلته تحت عناوين تكفى تلاوتها للعن الظالمين المجرمين وهى ( القبض على المعزيين .. ومنع الصلاة على جثمان الفقيد .. منع تلاوة القرآن علي روحه .. " ثم نشرت الوصف التاريخى الآتى : ـ نقلت جثت الفقيد إلى بيته فى سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين وقد أنساهم هول الجريمة أن الموتى لا يتكلمون ولا ينطقون. وفى أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة ، ونزل الجند ،فأحاطوا بيت الفقيد .. ولم يتركوا ثقباً ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح .
أما والد الشيخ البنا الشيخ الهرم الذى تجاوز التسعين عاما فلم ينوء بها .. ولم تبد عليه عوامل السنين كما بدت فى هذه الليلة النكباء فقد عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط ساعة وقوعها وظل ساهراً تفجعه الأحزان . منتظرا الفجر ليؤدى فريضة الله ويقول له : " سبحانك ..عدالتك ياربى .. لقد قتلوا ولدى " وتتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ طحن الرحى . كان الوالد يعلم وينتظر ، فإن أشقاء الفقيد جميعا كانوا داخل المعتقلات . وفتحوا الباب وأدخلوا الجثة ، وتشجع الوالد المحطم بالبكاء فقالوا : لابكاء ولاعويل ..بل ولامظاهر حداد ولا أحد يصلى عليه سواك .
ولنترك الشيخ أحمد البنا والد الإمام الشهيد يتم القصة :
" أُبلغت نبأ موته فى الساعة الواحدة وقيل لى أنهم لن يسلموا الجثة إلا إذا وعدتهم بأن تدفن الساعة التاسعة بلا احتفال وإلا فإنهم سيطرون إلى حمل الجثة من مستشفى القصر العينى إلى القبر. واضررت إذاء هذه الأوامر إلى أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة رغبة منى فى أن تصل جثة ولدى إلى بيته فألقى عليه نظرة أخيرة ، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلى البيت متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران ولم يعلم بوصولها سواى .. وظل حصار البوليس مضروبا ،لاحول البيت وحده ،بل وحول الجثة نفسها ، ولا يسمحون لإنسان بلاقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد ، وقمت بنفسى بإعداد جثة ولدى للدفن .. فإن أحدا من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول .
ثم أنزلت الجثة .. حيث وضعت فى النعش .. وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير ؟ طلبت إلى رجال البوليس أن يحضروا رجال يحملوا النعش فرفضوا . قلت لهم : ليس فى البيت رجال . فأجابه فليحمله النساء . وخرج نعش الفقيد محمولا على أكتاف النساء ومشيت الجنازة الفريدة فى الطريق ، فإذا بالشارع كله قد رصف برجال البوليس ،وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم .. والسخط على الظلم المسلح الذى احتل جانبى الطريق .
وعندما وصلنا إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد كان المسجد خاليا من الناس ، حتى من الخدم وفهمت بعد ذلك أن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله وأمروا من فيه بالانصراف ريثما تتم الصلاة على جثمان ولدى . ووقفت أمام النعش أصلى فأنهمرت دموعى ،لم تكن دموعى بل كانت ابتهالات إلى السماء أن يدرك الله الناس برحمته ، ومضى النعش إلى مدفن الإمام ، فوارينا التراب هذا الأمل الغالى وعدنا إلى البيت البالى الحزين ومضى النهار وجاء الليل ولم يحضر أحد من المعزين لأن الجنود الأشداء منعوا الناس من الدخول ، أما الذين أستطاعوا الوصول إلينا للعزاء فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم فقد قبض عليهم ، وأودعوا المعتقلات إلا شخص واحدا هو مكرم عبيد باشا . فى أثنتى عشرة ساعة قتل الشيخ البنا ، وشُرح وغُسل ودفن وانطوت حياته .
عادت النساء الثلاثة التى حملن النعش على أكتافهن وعاد الوالد الواله الحزين وقبل أن يغش الظلام مدافن الإمام الشافعى كانت شلة من الجنود تحاصر الطرق المؤدية إلى المقبرة وقوات كبيرة تحيط بمنزل الفقيد لتمنع الداخلين ولو كانوا مرتلى آية الذكر الحكيم .. وتقبض على الخارجين ولو كانوا من جيران الراحل الكريم .
وهكذا رحل الإمام الشهيد الذى مات فى عمر الزهور بعد أن أحيا شعباً .. وأيقظ أمة .. وكان قذى فى عيون الحكام والأحتلال .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ من المؤمنين رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }
صدق الله العظيم